انفلات الغرائز

انفلات الغرائز

المغرب اليوم -

انفلات الغرائز

سوسن الأبطح
بقلم : سوسن الأبطح

يريد العالم الشيء وضده في وقت واحد، وهذا محال. لا يمكنك أن تقلل انبعاث الغازات السامة، باستبدال الدراجات الهوائية ببعض السيارات، والأكواب الكرتونية بالبلاستيكية، وتدمن على أكل الخضراوات العضوية. فهذا من بهارج الإجراءات. ما يلزمنا، لنكون صادقين مع أنفسنا، هو التوقف عن المبالغة في الاستهلاك، والعمل على تطويل العمر الافتراضي للمنتجات، وكل ما عدا ذلك فهو مجرد ذرّ للرماد في العيون.
وصلت الدول الصناعية إلى ذروة ازدهارها في العقدين الماضيين، بفضل الاعتماد في صناعاتها على الوقود الأحفوري بأنواعه (غاز ونفط وفحم)، ثم التشجيع على الإنفاق، والإسراع في استبدال كل قديم، بمجرد أن تطل صيحة جديدة برأسها في الأسواق. ومن دون هذه الدورة، مصير الدول الصناعية الركود، وعلى مصانعها السلام. لذلك فالدول الغنية، والأكثر تخريباً وتلويثاً للكوكب، هي نفسها التي تقود قمم التحول المناخي، وهي التي تنذرنا بالفناء، وتضع الخطط، التي تنتهي في كل مرة إلى فشل. ثمة إيحاء دائماً، بأنهم فهموا الدرس، وهم ماضون على الطريق الصحيح. وهذا تضييع وقت، ومن سيدفع الثمن الأكبر، هي الشعوب التي لا ناقة لها في الأرباح ولا جمل.
الدول المدافعة عن الطاقة النظيفة، هي التي تصرخ الآن بسبب ارتفاع أسعار النفط، وتذهب في كل اتجاه باحثة عن تعويضه، وخفض ثمنه، لتبقى مصانعها تدور بسرعة وتنتج بكثافة، ولا تقتلها البطالة. مع أن ارتفاع أسعار الوقود الأحفوري، قد يكون حلاً جاءت به السماء، لكبح جماح الدورة البشرية الجهنمية المجنونة، وتبطئ حركة الزحف الجماعي صوب الانتحار.
من يدّعون بأنهم لم يعطوا الزمن الكافي للوصول إلى الطاقة النظيفة، لا يخبروننا، كم يحتاجون من الوقت، وهذا هو الأهم. الاتحاد الأوروبي سيطلق مشروعاً عنوانه «من المزرعة إلى الشوكة»، أي القضاء على الأراضي البور، والاعتماد على الزراعة العضوية، والتخلي عن الأسمدة الكيميائية والمبيدات المصنّعة، لتحقيق الاكتفاء الذاتي، ومساعدة الدول الجائعة. هذا مشروع جميل ورومانسي، تشجعه لوبيات الصناعات الزراعية، المستفيدة من صفقات المساعدات الدسمة المنتظرة. لكن العارفين في المجال، يؤكدون أن الزراعة العضوية الكاسحة، في الوقت الحرج الذي نمر به، هو خفض لنسبة الإنتاج ورفع للأسعار. وكتب معلق: «إنتاج المزيد باسم الاستقلال الزراعي يشبه الرغبة في وضع المزيد من السيارات على الطريق باسم توفير الطاقة». النتائج التي يتم الحديث عنها هي محض أحلام. فالتمنيات على أهميتها، لا تمتلك للأسف، تقنياتها الناجعة والاقتصادية بعد.
بين متطرفي الدفاع عن الوقود الأحفوري ومتطرفي البيئة النظيفة الذين يظنون أنهم سيحلون مشكلات الكوكب، بالبطاريات والألواح الشمسية، في غضون سنوات قلائل، ثمة ضحايا بمئات الملايين سيتساقطون، بين جوعى وغرقى، وعطشى، ومشردين، وعاطلين عن العمل.
الطاقة المتجددة لا تزال بدائية، وتحتاج وقتاً للتخلي عن معداتها الملوثة هي الأخرى. دراسة تقول إن مزرعة رياح واحدة بقدرة 100 ميغاوات بحاجة لـ50 ألف طن حديد، ومثلها من الخراسانة، و900 طن بلاستيك غير قابلة للتدوير. وإذا حسبت ما تحتاجه بطارية واحدة مستخدمة في توليد الطاقة، من معادن مثل النيكل والفولاذ والنحاس والألومنيوم، بات ثمنها يرتفع في كل لحظة أسوة بالذهب، وكم من البطاريات يحتاج كل مشروع، تدرك أن الأحلام الخضراء، ليست مدعومة بعد بالأدوات الكافية. آخر ما يمكنك أن تثق به هي الدراسات. لكل لوبي دراساته وطريقته في الاحتساب، وحججه، وما يدعّم قضيته. لا يمكن لعاقل ألا يشجّع الانتقال إلى كل ما هو أخضر، لكن شرط الاعتراف بأن الحلول السحرية ليست في المتناول بعد.
كما في السياسة والاقتصاد، كذلك في الطاقة، البشرية على مفترق خطر، تنتقل من نظام قديم كان له منطقه وقادته، وعدّته وأهدافه. وبينما يتمكن الإنسان من التخفيف الجاد، من استهلاك الوقود الملوث، يجب ألا يُترك الناس نهباً للمصالح الآنية للوبيات الطاقة النظيفة، والزراعة العضوية، ومصانع التدوير والتحويل، وهي كلها مفيدة، لكن القيّمين عليها لا يتورعون عن الغش في بضائعهم، واستخدام الطائرات الخاصة، وتبديل تليفوناتهم ولابتوباتهم، دورياً، وتزويد أنفسهم بآخر المبتكرات، كلما سنحت الفرصة.
حذّر جون كيري قبل أيام، وهو حالياً المبعوث الأميركي الخاص لشؤون المناخ، من «عواقب أسوأ أزمة مناخية تشهدها البشرية» بحلول عام 2030. أي بعد أقل من 10 سنوات، إذا لم تلتزم بتخفيض الانبعاثات بنسبة 40 في المائة، وهو ما يشبه المستحيل ونحن نشهد أكبر صراع بين الدول الكبرى لتوفير الوقود الأحفوري. ما يعني أن النفط والغاز، لا يزالان إدماناً عالمياً، وبكميات غير مسبوقة.
السيد كيري كان وزير خارجية أقوى دولة في العالم، تأمر فتستجاب، ولا نعرف لماذا لم تفعل ما يكفي!! فهو نفسه يقول إن 20 دولة، أعضاء مجموعة العشرين، (التي تحدثنا عنها أعلاه) تتسبب فيما يصل إلى 80 في المائة من إجمالي الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، وهي وحدها التي تملك الحل.
ليس خطأ تخفيف درجات التدفئة في البيوت شتاء، وتقليل إنتاج السيارات، والحد من عدد الطائرات التي تجوب السماوات طولاً وعرضاً، والعودة إلى التقنين في شراء الملابس. والأهم الكفّ عن إدمان استخدام البلاستيك، الذي أصبح كارثة العصر، ووصلت جزيئاته إلى دمائنا، وتسري في عروقنا، بحسب دراسة هولندية حديثة. فقد بتنا نأكله مع الطعام في صحوننا ونشربه في أكوابنا ويدخل إلى أمعائنا التي تمتصه وتنقله إلى الجسد كله.
الطاقة البديلة تتعثر، لأن أحد أهم شروطها هو التقنين، وهذا يتناقض مع الطمع والتغول، وانفلات فجور الاستهلاك، وجشع الاستحواذ.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

انفلات الغرائز انفلات الغرائز



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

أحلام تتألق بإطلالة لامعة فخمة في عيد ميلادها

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 18:43 2025 الثلاثاء ,18 شباط / فبراير

ريهام حجاج تحارب الاحتيال على السوشيال ميديا
المغرب اليوم - ريهام حجاج تحارب الاحتيال على السوشيال ميديا

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 16:47 2022 الجمعة ,14 كانون الثاني / يناير

حزب التجمع الوطني للأحرار" يعقد 15 مؤتمرا إقليميا بـ7 جهات

GMT 04:28 2025 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

تعادل مثير بين نهضة بركان وأولمبيك آسفي

GMT 21:07 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

"يوتيوب" يطلق أدوات جديدة لتحسين الجودة

GMT 04:32 2025 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

الاعبين المغاربة بدوري أبطال أوروبا

GMT 00:56 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

مواجهه بلد الوليد وريال مدريد بحضور مغربي

GMT 04:21 2025 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

مباراة الفتح الرباطي والرجاء الرياضي بدون جماهير

GMT 17:43 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 04:22 2025 السبت ,25 كانون الثاني / يناير

عبد الحميد معالي رجل مباراة اتحاد طنجة والرجاء الرياضي

GMT 10:48 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

مستقبل أمين عدلي مهدد في باير ليفركوزن بسبب إصابته

GMT 18:01 2020 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تتهرب من تحمل المسؤولية

GMT 00:50 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

أعضاء هيركوليس يساندو اتحاد طنجة قبل لقاء بركان

GMT 21:22 2019 الجمعة ,06 أيلول / سبتمبر

اترك قلبك وعينك مفتوحين على الاحتمالات

GMT 12:35 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج السرطان السبت 26-9-2020

GMT 10:40 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

النصر الإماراتي يدخل سباق التعاقد مع حكيم زياش
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib